خواطر مقتبسة من التاريخ الشفوي الفلسطيني في الشتات

بقلم سماح فضل

هذا المقال جزء من عدد “فلسطين: أوجه الوجود،” الذي يسلط الضوء على جوانب من الحياة الفلسطينية والتحرير غير المستكشفة بما يكفي.

اقرأ هذا المقال باللغة الانكليزية.

قبل  ١٩٤٨

تخيلوا شجرة عائلية.

إن هذه الشجرة عميقة الجذور. تتحول جذورها إلى جذوع تنمو فتصبح أغصانًا تمتد إلى جميع زوايا فلسطين ومنحنياتها. من صحراء النقب، حيث تبني قبيلة بدوية منزلًا، إلى مدينة يافا الساحلية، حيث يستريح رجل إفريقي من أصلٍ سوداني بعد العمل ويقابل زوجته المستقبلية. من مزرعة في يافا، حيث تقوم إحدى العائلات بتربية الماعز وزراعة البرتقال على الأرض التي اعتنى بها أسلافهم منذ مئات السنين، إلى مدرسة في غزة ترحب بطفلة صغيرة وتعلِّم أجيالًا جديدة كيفية القراءة.

الآن ، تخيل أن هذه شجرة العائلية اقتُلِعَت.

في ١٩٤٨

تلقت تيتة سَكينَة، والدةُ والدتي، بلاغًا مفاده أن الجنود ينتقلون من مدينة إلى أخرى ويطردون الناس من منازلهم ويطلقون النار على أي شخص يقاوم. كان ذلك خلال النكبة.

كان جدي بعيدًا. ربما يعمل، ربما يحارب – دائمًا ما يوجد ذكريات متضاربة في الروايات الشفوية. القصة الوحيدة التي تسمعها تكون النسخة المختصرة. إذا كنت محظوظًا، فقد يكشف شخص ما عن قطعة أخرى من الحكاية لاحقًا.

كان على تيتة سَكينَة أن تخفي مسدس عمي قبل وصول الجنود. في لحظة من اليأس عندما اقتحم الجنود المنزل، خبئت المسدس في حفاضات أمي المصنوعة من القماش. وحملت تيتة أمي الرضيعة بالقرب من صدرها – عناق بينها وبين المعدن البارد. هربت عائلتي، وكانت تلك آخر مرة رأوا فيها مزرعتهم في يافا.

بعد ١٩٤٨

وُلِدَ واحدٌ فقط من إخوتي في فلسطين. أما بقيتنا، ففتحنا أعيننا للحياة في دولٍ غريبة عنّا لم تطلب من أهلنا تأشيرات دخول أو قامت بقبول تصاريح عمل: مصر، الكويت، الإمارات العربية المتحدة. كانت العمالة الفلسطينية موضع ترحيب – وبالأحرى كانت لازمة –  في الخليج، لكن لم يتم منح الجنسية. انتقلنا عدة مرات قبل أن نصل إلى كندا.

حاول والداي أن يغرسوا الهوية الفلسطينية في أنفسنا. عندما تدخل منزلنا، تنبعث رائحة طبق المقلوبة في الهواء. تسمع أغنية وين ع رام الله على الكاسيت وترى كوفية معلّقة على الباب بجانب ملصق للقدس. عندما حصلنا على الفضائيات، كانت القناة الفلسطينية هي القناة المفضلة لأبي. أصبح إعلان أسماء الشهداء على التلفاز – أولئك الذين قُتِلوا على يد دولة الاحتلال الإسرائيلية – جزءًا من حياتنا اليومية. لا يهم كم مرة اضطررنا للتنقل أو عدد المحيطات التي فصلتنا عن وطننا؛ كانت فلسطين، التي نجح والداي في إحضار أجزاء منها ونسجها معًا في الشتات، جزءًا دائمًا منا.

سنوات الـ٢٠٠٠

“ألم يكن جنونًا عندما تظاهرنا بأننا لا نستطيع التحدث باللغة العربية أمام الجنود الإسرائيليين؟” سألتُ أختي.

غالبًا ما أطلب من إخوتي تأكيد بعضًا من ذكرياتي. عادةً ما يتم تبادل التجارب الفلسطينية في غرف المعيشة مع شرب القهوة، ولا يتم ذلك عبر كتب التاريخ.

“طلبوا مني أن أقول شيئًا باللغة الفرنسية، لذلك غنيت فريرو جاكو وهم يراقبونني. لم أكن مرتاحة.”

نحاول تجميع ما في وسعنا من الذكريات. “لا أتذكر ذلك.” تجيبني أختي. “لكنني أتذكر عندما قاموا بتفتيشي وأنا عارية. كان عمري  أربع أو خمس سنوات. لست متأكدة ما اعتقدوا أنهم سيجدونه في حوزة طفلة صغيرة.”

نتبادل أجزاءًا مؤلمة من القصص كأنها بطاقات بيسبول ممزقة. عندما أسأل أمي عن هذه الأشياء، تخبرني أحيانًا أنه من الأفضل أن أنسى. وأحيانًا أخرى تشاركني قصة جدتي التي اضطرت إلى إخفاء مسدس في حفاض أمي.

١٩٩٥

ظل أحد الجنود الإسرائيليين الكثيرين عند إحدى نقاط التفتيش العديدة التي مررنا بها للوصول إلى غزة يوجه بندقيته نحوي ونحو أبي. كان يصيح  بكلمة لم أفهمها. عندما سألت أبي عن معنى الكلمة، همس لي أن ألتزم الصمت وأن أتوقف عن طرح الكثير من الأسئلة. كنت في السابعة من عمري المرة الأولى التي رأيت فيها أبي يحاول أن يكون غير مرئي.

تحاول عائلتك أن تبقي بعضًا من التاريخ مدفونًا لسبب ما.

١٩٩٩

آخر مرّة كنت بها في غزّة، طلبت مني تيتة فاطمة، بنبرة مرعبة، أن أقرأ الصحيفة. استنفذت طاقتي الكاملة للفظ عنوان المقال العربي بشكل صحيح. شعرت بالارتياح الشديد عندما انتهيت… أما تيتة فاطمة، فقد أصيبت بخيبة أمل.

“ماذا يعني كل ما قرأتيه؟” سألتني.

لا يوجد لدي فكرة. لم أفهم كلمة واحدة. ثابرت تيتة بتوبيخ أبي بشأن تعليمي. بالنسبة لها، إذا لم أكلف نفسي عناء فهم ما قرأته، فلا فائدة من القراءة على الإطلاق. يدور سؤالها في ذهني. كلما صادفت كلمات مكتوبة عن شعبي، أسأل نفسي: ماذا يعني كل هذا؟

٢٠١٩ 

“رأت تيتة فاطمة صحيفة عندما كان عمرها ١٠ سنوات وطلبت أن تتعلم كيف تقرأها.” تخبرني عمتي عبر الهاتف. “رفض رجال القبيلة. شعرت جدتك الكبرى (أم فاطمة) بالإهانة لأنهم كانوا يتخذون القرارات عن عائلتها، كانت أرملة في ذلك الوقت. لذلك هربت مع تيتة فاطمة على حمار في الليل. من صحراء النقب إلى مدينة غزة. هل يمكنكِ أن تتخيلي؟ كانت مدة الرحلة ٢٤ساعة. كادوا يموتون! ولكن عندما وصلوا إلى المدينة، تعلمت تيتة فاطمة كيف تقرأ في غضون شهر. بدأت الذهاب إلى المدرسة وكانت الأولى في فصلها. دَرَسَتْ الطب وأصبحت أول ممرضة سوداء في كل فلسطين. ألم يخبرك والدك بأي من هذا؟ رحمه الله، كان شديد الحذر من هذه الأشياء. لا بأس، لا تنزعجي. استمعي لي. تاريخنا لا يزال لنا لاستكشافه. هناك الكثير لنتعلمه.”

منذ ٢٠٢٠

قمت بتصفح  ألبومات العائلة الكثيرة التي تراكم عليها غبار السنوات. سألت أمي عنهم وأخبرتني قصصًا جديدة. شاركت هذه الحكايات مع بنات وأبناء إخوتي. وأخبرتهم قصصي أيضًا.

لفتت انتباههم صورة لجدّهم وهو يقف على خشبة مسرح أمام الميكروفون مرتديًا “زي السبعينات، أنيقٌ للغاية” وفقًا لأحد ابن اخوتي. كان يرتدي سترة من قماش الساتان، لها قَصَّة في الأمام على شكل رقم ٧، وبنطال أسود وربطة عنق أسكوت. اكتمل مظهره بابتسامة واثقة موجهة نحو الكاميرا. بدا وكأنه مستعد لأداء.

“نظم جدكم الكثير من الفعاليات مع مركز اجتماعي في أبو ظبي. قيل لي أنه مضيف رائع.” استمع الأطفال إليّ بدهشة.

إن هذه القصص – قصصنا – هي نبذات لما يعنيه الوجود الفلسطيني. لدينا جميعًا طرق في الحفاظ على هويتنا. في حالتي، أشارك ما أعرفه وأُبقي كلمات تيتة وعمّاتي قريبةً من قلبي. عندما أكتشف قصصًا جديدة وأقوم بمشاركة هذا التاريخ كما أريد، أفهم ما يعنيه كل هذا.

“تعالوا. دعوني أخبركم. هناك الكثير لنتعلمه.” أقول لأبناء وبنات اخوتي.

*

في “سْكِن ديب،” نوفر مساحة للمبدعين السود وذوي الخلفيات المتعددة لإخبار قصص جذرية تساعد على خلق عوالم جديدة. نحن منظمة غير ربحية ذات مصلحة مجتمعية. تمويل عملنا ليس بأمر سهل، خاصةً بالنسبة للقضايا الأكثر إلحاحًا التي نناقشها والتي تستحق اهتمامنا مثل قضية تحرير فلسطين. إذا كنتم تؤمنون بأهمية هذه القصص مثل التي هي موجودة في هذا العدد، فالرجاء دعم منظمتنا: بإمكانكم أن تصبحوا أعضاء في المجلة، أو يمكنكم التبرع